تأملات في شخصية باراك أوباما

تأملات في شخصية باراك أوباما

أثار خطاب أوباما للعالم الإسلامي من جامعة القاهرة يوم 4/5/2009 م اهتماما واسعا وجدلا أوسع حول آفاقه ومعانيه ودلالاته وإمكانية خروجه إلى حيز التنفيذ , وهل هو رؤية شخصية رومانسية لإنسان حالم طموح أم سياسة أمريكية جديدة صنعت في مطبخ المؤسسات الراسخة بناءا على التغيرات العالمية التي ترجح تكامل الحضارات على صراع الحضارات ؟. ولا يمكن فهم كل هذا دون أن نفهم  أوباما نفسه .. صاحب أكبر قصة نجاح في العصر الحديث , وصاحب أكثر السير الذاتية إثارة في تاريخ الساسة الأمريكيين .. نحاول أن نفهم نشأته وكيف أثرت في شخصيته .. وما هي مفاتيح تلك الشخصية التي تمكننا من فهم توجهاته وردود أفعاله .. والدافع إلى ذلك هو أن كثير من الدلائل تشير إلى أهمية وخطورة هذا الرجل في التاريخ الإنساني الحديث في حالة لو ترك حيا يستكمل آماله وأحلامه الجريئة كما وصفها هو في كتابه  (جرأة الأمل) The audacity of Hope .. هذا بصرف النظر عمّا إذا كان سيمد يده للعرب والمسلمين أو يخذلهم .

ظروف النشأة ومفاتيح الشخصية :

حياة أبويه مليئة بمحاولات الصعود .. فأبوه حسين أوباما ينحدر من قبيلة "لوا" الكينية وقد عمل راعيا للماعز في قريته "ناينغوما" , وتابع دراسته في كينيا , ثم تركها بفقرها وبؤسها ومشكلاتها وانتقل إلى أمريكا في بعثة دراسية بحثا عن التفوق والتميز , وكان طالبا مجتهدا نشيطا ولذلك حاز إعجاب زميلته الأمريكية البيضاء والتي تنحدر من ولاية كنساس واسمها "آن دنهام"  , فتزوجها وعمرها آنذاك 18 عاما . وبعد فترة قصيرة من ميلاد باراك انفصل الزوجان وكان عمره حينئذ سنتين  . وحصل حسين أوباما على الدكتوراه من جامعة هارفارد , ولسبب أو لآخر عاد إلى كينيا ليستثمر شهادته العليا وربما كان يحلم بفرصة كبيرة في بلده , ولكن الظروف السياسية حالت بينه وبين ذلك فانكفأ على نفسه وراح يتعاطى الكحوليات ليغيب وعيه وينسى إحباطاته , وقد مات في حادث سيارة في كينيا عام 1982 م , وعلى الرغم من أن باراك لم يكن يرى أباه إلا فيما ندر إلا أنه تأثر بشخصيته , وهو يصفه بقوله "كان مثاليا .. مات وفي نفسه مرارة عميقة" , ويبدو أن هذا الأب كان أحد روافد الرغبة في الصعود لدى باراك أوباما  , كما كان أيضا رافدا لصفة المثالية لديه . أما أمه فقد ماتت وتركت ألف صفحة من رسالتها للحصول على الدكتوراه , وكانت لديها روح المغامرة والخروج على المألوف وكسر قيود العادات والتقاليد السلبية , فتزوجت – وهي البيضاء الأمريكية – شابا إفريقيا أسود لتتحدى بذلك قيما ومفاهيم كانت سائدة بقوة في المجتمع الأمريكي تمنع على السود واليهود والكلاب دخول مطاعم البيض .

وننتقل من ظروف النشأة المبكرة إلى لقطة حديثة جدا فنتأمله وهو يصعد سلالم قصرالقبة (إبان زيارته لمصر في 4 يونيو 2009 م)يقفز صاعدا السلم في خفة ورشاقة , ونتأمله مرة أخرى وهو يصعد سلم الطائرة المغادرة في خفة ورشاقة وحيوية وحذر في نفس الوقت , ومن هنا نلتقط مفتاح شخصيته "الرغبة في الصعود" , تلك الرغبة التي انتقلت إليه من أبويه , وهو يريد أن لا يسقط في وسط الطريق كما سقطا سواءا بالتعاطي أو بالإحباط أو بالفشل أو بالموت لذلك تجده حذرا يختار الكلمات بعناية شديدة ويخشى الميل الشديد إلى أحد الأطراف على حساب الآخر فهو يراعي التوازنات حتى لا يسقط كما سقط أبويه من قبل . ونظرا لعمق جينات وسلوكيت الرغبة في الصعود والنمو الدائم لم يأخذ وقتا طويلا في الوصول إلى قمة الحلم البشري في قيادة أقوى دولة في العالم (وهو ابن مهاجر إفريقي أسود) , وقد نفذ ذلك الحلم في غضون عشر سنوات إذ راوده لأول مرة بشكل واضح في سن الخامسة والثلاثين فحدد عشر سنوات لتحقيقه , وحققه فعلا.


وقد يقول قائل : لقد حقق أوباما حلمه ووصل إلى أعلى قمة وهو الآن في السابعة والأربعين فماذا بعد ؟

لو عدنا إلى إلى مفتاح شخصيته فسنجد أنه غير قادر – حتى لو أراد – على التوقف عند هذه النقطة بل هو يريد مزيدا من الصعود ومزيدا من الخلود , تراوده الآن أحلاما إنسانية هائلة لو نجح في تحقيقها فسيدخل التاريخ ليس كرئيس رسمي للولايات المتحدة الأمريكية ولكن كأحد الذين غيروا مسار التاريخ الإنساني , خاصة وأنه يمتلك قدرات ومهارات شخصية هائلة . وعلى الرغم من هذه الرغبة الملحة في الصعود الدائم , ونجاحه حتى الآن في هذا الصعود , وتجاوزه للنقطة التي توقف عندها أبوه بالتعاطي والنقطة التي توقفت عندها أمه بالموت إلا أنه يحمل في تاريخه العائلي إمكانية الإنكسار , أو السقوط عند الدرجة المكسورة من السلم .

وأوباما الذي ولد في أمريكا عام 1961 م لأب مسلم وأم مسيحية , وله أقارب في ثلاث قارات (إفريقيا وآسيا وأمريكا) , وزار أوروبا وإفريقيا وعاش في آسيا حتى سن عشر سنوات وقضى فترة التعليم الإبتدائي (وهي فترة مهمة في وضع أسس ومفاهيم توجه السلوك بعد ذلك) في جاكرتا بإندونيسيا والتي انتقل إليها عام 1967 م مع أمه وزوجها الإندونيسي "لولو سويترو" , ثم عاد بعد ذلك إلى "هونولولو" ليتربى في كنف جده وجدته لأمه وتابع دراسته هناك حتى نهاية المرحلة الثانوية عام 1979 م  . هذه النشأة وتلك الظروف التي عاشها تعطينا مفتاحا آخر من مفاتيح شخصيته , وهو التعددية الثقافية , والقدرة على قبول الآخر المختلف واحترامه . وقد رأى الرئيس بشار الأسد أن شخصية الرئيس أوباما المتعددة الثقافت تعكس الآمال في إمكان حدوث تحول بين واشنطن ودول الشرق الأوسط .

وفي مقال في صحيفة نيويورك تايمز قبل زيارة أوباما لمصر ورد أن "شخصية أوباما غريبة جدا فهو لا يميل إلى طرف على حساب طرف آخر بشكل واضح , وكما أن له أصدقاء عرب يكرهون الصهاينة , له كذلك أصدقاء يهود وصهاينة يكرهون العرب" , وهذا الوصف يشير إلى مفتاح آخر من مفاتيح شخصيته وهو الميل إلى مراعاة التوازنات والحلول التوافقية التي ترضي جميع الأطراف .

ومن صفاته الأساسية الهدوء والحذر , فنادرا ما يرتفع صوته , ونادرا ما يظهر انفعاله , ولذلك أطلق مساعدوه في الحملة الإنتخابية عليه اسم "أوباما بلا دراما " . ويؤكد النجم الأسمر "جيمي فوكس" على هذه الصفة في أوباما فيقول : "إن لديه طريقة في الكلام رائعة , دائما هادئ ومعبر بقوة عما يقول , حتى عندما كان يتنافس مع السناتور "ماكين" لم يتحمس ويرفع صوته ليعلن عن وجوده , بل ظل هادئا ومتمكنا من حديثه طوال الوقت" .

وأوباما هو الولد الوحيد وله أخت واحدة , وكانت أمه شغوفة به وشديدة الإهتمام بكل شئ يخصه , لذلك نتوقع أن يكون لديه إحساسا عاليا بذاته وبأهميته , وقد يصل هذا إلى درجة من النرجسية (نلقاها عموما في كثير من الناجحين والمتميزين) , وقد اتضح هذا الأمر في اهتمامه بأن يكون حفل تنصيبه أسطوريا ومدويا , وهو مالم يكن معتادا من قبل بهذه الدرجة لدى الرؤساء الأمريكيين السابقين . وربما يكون المصريون قد التقطوا هذا الخيط الطاووسي الإستعراضي لدى أوباما فاستقبلوه في قصر القبة بموكب من السيارات يتقدمه عشر ضباط على الخيول في مشهد سلطاني مهيب .

وأوباما يعتمد كثيرا على سحره الشخصي ويعوض به قلة خبرته في عالم السياسة مقارنة بمنافسيه وقد ذكرت شبكة CNN  (بناءا على استطلاع للرأي) في 28/4/2009 م أن شخصية أوباما أكثر شعبية من سياساته . وهذا ربما يستدعي الحذر في التعاطي مع أوباما كشخصية كاريزمية تأسر قلوب الناس بقولها وسحرها , ولكن ليس بالضرورة من خلال حقائق وأفعال وسياسات .  

إذن نعود لنجمل مفاتيح شخصيته وسماته الأساسية في التالي :

الرغبة الشدية في الصعود , الحذر , المثالية , الهدوء , الميل للحلول التوافقية , مراعاة التوازنات , إرضاء جميع الأطراف , الإعتزاز الشديد بالذات والذي قد يصل إلى درجة النرجسية .

اذا كان لديك مشكلة وترغب فى عرضها على العيادة النفسية

سجل ايميلك لتصلك الاعداد الجديدة من مجلة النفس المطمئنة